برنامج على الأثر – الحلقة السادسة عشر | الزهد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين،
يا رب صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

محمدٌ سيّد الكونين والثقلين، والفريقين من عرب ومن عجم،
هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحم.

يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
“اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.”

وهذا قول عظيم، ودعاء كريم لهؤلاء السادة القادة الذين تربّوا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ودعاء كان سببه أن هؤلاء السادة كانوا قدوات لمن بعدهم.

علّمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معنى كلمة الدنيا، ومعنى كلمة الآخرة، ففهموا حقيقة الدنيا والتعلّق بها، وفهموا حقيقة الآخرة، وكيفية العمل لها.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:
“مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل سار في يوم شديد الحرّ، فاستظلّ تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها.”

يعني عمر الإنسان كلّه ساعة. يخبرنا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ضرب لنا مثلًا عن رجل كان يطوف في البلاد، وكان متوجهًا إلى قرية من القرى، فوجد أناسًا مجتمعين خارج القرية، بقي يتأمّل فيهم واقترب منهم، وهو كذلك إذ بطائر يأتي ويحطّ على رأسه.

أقبلت عليه الناس: ماذا تريدون؟ ماذا تحبّون؟
قالوا: أنت الذي ستحكمنا.
قال: كيف أحكمكم؟ أنا لا أعرفكم!
قالوا: لا، أنت الذي ستحكم هنا، أنت أميرنا وقدوتنا.
قال: وما قصّتكم؟
قالوا: نحن في كلّ ثلاثة أعوام، أو مدّة معيّنة، نخرج إلى هذا المكان – أي خارج البلدة من الصحراء – ونُطلق طائرًا، ومن جاء ذلك الطائر على رأسه، يكون هو أميرنا، وهو الذي يحكمنا.

قال: طيب، ومن هذا الذي أخرجتموه عاري الثياب، وحملتموه إلى الصحراء وألقيتموه؟
قالوا: هذا الذي كان يحكمنا في الأعوام السابقة.

استغرب الرجل: ما هذه القصّة؟ أو ما هذا الذي أنا فيه؟
فأخبرهم: إذا أردتم أن أقبل شرطكم، لابد أن تقبلوا شرطي.
فقالوا له: وما هو شرطك؟
قال: أنا سأقضي معكم فترة من الزمن، ثم بعد ذلك سأخرج إلى الصحراء. قالوا: نعم. قال: ولا أحمل معي شيئًا. قالوا: نعم.
قال: إذا أنا الآن قضيت معكم هذه الأعوام، تسمعون وتطيعون؟
قالوا: نسمع ونطيع.

فبقي معهم، وبدأ يُعدّ طريقًا جيدًا يوصله إلى الصحراء، ثم بدأ يُعدّ الصحراء ويهيئها، فجعل فيها البناءات، وجعل فيها النخيل، وجعل فيها حتى قربت مدّة انتهاء إمارته، فوجد أن الصحراء صارت جنة على وجه الأرض، فصار يرغب لانتهاء مدته ليخرج إليها.

ضرب العلماء هذا المثال ليبيّنوا لنا حال إنسان لم يتعلّق بصور الأشياء الموجودة حوله، وإنما أعدّ لنهاية فترته.
وإنما العمر فترة، وإنما العمر ساعات، وإنما العمر دقائق، وإنما العمر ثواني.
لابد للإنسان أن يتعرّف على المكان الذي سيذهب إليه، فإذا كان يعمّره، سيجد واحة، وإذا كان يعمّره، سيجد خيرًا.

كيف يمكنني أن أعمّره؟
لابد لي أن أتعرف على الدنيا وحقيقتها، ولابد لي أن أتعرف على الآخرة وحقيقتها.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:
“مالي ومال الدنيا؟”

سُئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:
أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد؟
قال: نعم، إذا كان لا يفرح بزيادته – أي لا يفرح بزيادة المال – نعم، يعمل في الدنيا إلى غير ذلك، ولكن لا يكون همّه، ولا يحزن بنقصانه.

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى:
“ليس الزهد باضاعة المال، ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تُصب بها سواء.”
أي: عدم تعلّق القلب بالدنيا، إن كانت الدنيا فيها بَحبوحة من العيش، أو فيها ضيق من العيش.

نسأل الله أن يرزقنا كمال الزهد، وأن يرزقنا حقيقة الزهد، وأن يجعل ما في قلوبنا أعظم ممّا في أيدينا، وأن يهيئ لنا أسباب الخير يا أرحم الراحمين.

اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى