برنامج على الأثر – الحلقة الرابعة عشر | التضحية – ج2
يا ربِّ، صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمد، وعلى آلِ سيِّدنا محمد، كما صلَّيتَ على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آلِ سيِّدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.
التضحية من الأخلاق السامية التي ربّى عليها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أصحابَه الكرام. عمّار بن ياسر، بلال الحبشي، بلال بن رَبَاح، سُمية أم عمار، خبّاب، عثمان، مُصعب، أبو ذر، ابن مسعود… رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18-19].
من أحبَّ الدنيا سيسعى لها سعيَها، ومن أحبَّ الله عز وجل وأحبَّ الآخرة فسيسعى له سعيَه. أليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: “من أحبَّ الدنيا خرّب آخرته”، أو كما قال وقوله الأشرف صلى الله عليه وآله وسلَّم. بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ضرب لنا أمثلةً في هؤلاء الصحابة الذين تركهم.
احتاج الصحابة يوماً إلى الماء في فترةٍ عزَّ فيها الماء، فكان هناك بئرٌ لرجلٍ يهودي اسمه رُومة. ذلك البئر، كان اليهودي في كل يوم يرفع الأسعار، باعتبار أن المسلمين كانت آبارهم قليلة الماء، وكان بئر رُومة من أفضل آبار المدينة ماءً. فمن العجيب أن رُوْمة هذا كان يأخذ مالاً كثيراً من كل من أراد أن يستقي من ذلك البئر.
جمع رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الصحابة، وقال: “من منكم يقدر أن يشتري بئر رُومة؟”. ومن العجيب أن سيدنا عثمان رضي الله عنه، له مآثر عجيبة، وله مآثر عرفها كل من تتبّع سيرتَه الشريفة. من مآثره: أنه جَبَر خاطر رسول الله في ابنتيه، فصار ذا النورين. ومن مآثره رضي الله عنه، أنه في كل مرة يسعى جاهداً إلى أن يضع مالَه لإرضاء الله ورسوله.
ذهب عثمان بن عفّان رضي الله عنه إلى رُومة هذا، فقال: “يا رُومة، بِعني البئر”، فعلم اليهودي أن المسلمين يريدون أن يأخذوا منه تلك المنفعة. ولكن سيدنا عثمان رضي الله عنه كان صاحب ذكاء، فقال: “يا رُومة، هل تبيعني نصف البئر، نحن نسقي يوماً، وأنت تسقي يوماً”.
قال: “وبكم تشتري هذا؟”
قال: “أعطيك عشرة ألاف دينارٍ ذهبية”
قال: “قليل”
قال: “أعطيك مئة ألف دينارٍ ذهبية”
قال: “قليل”
فاذا به يصل السعر إلى مبلغ كأنّه مليون دينار ذهبية، أي كأنها ثروةٌ كبيرة في ذلك الزمان. وقيل إنها كل أو جلّ ثروة سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
قبل اليهودي، واشترى سيدنا عثمان ذلك البئر، وفرح رسولُ الله بذلك، وفرح الصحابة، وبدأ المسلمون يستقون من ذلك البئر في يوم، واليهودي يبيع الماء في يوم آخر. إلا أن اليهودي اكتشف أنه وقع في فخ. كيف؟
قال: المسلمون صاروا يملؤون البئر في يوم عثمان، ولا أحد يشتري الماء من يومه.
فجاء سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه – من العجيب – يحمل سَطلاً من الماء.
فقال: “يا رُومة، بكم تبيعني السَّطْل؟”
قال: “بدرهم”،
قال: “كثير”،
قال: “بكذا وكذا”،
قال: “كثير”،
قال: “تبيعه بنواة تمر؟”
قال: “نواة تمر؟! هاتِ النواة التي عندك، أعطيها علفاً!”
فأخذ أبو هريرة رضي الله عنه السطل وألقاه وضحك.
فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقال: “يا محمد، إن أصحابك كذا وكذا وكذا…”
قال: “أليس اشتروا منك نصف البئر؟” قال: “نعم”
قال: “فما تلومهم عليه؟”
قال: “أريد أن أبيع البئر كلّه”، قال: “بكم؟”
قال: “بنفس المبلغ الذي اشتراه عثمان”، قال: “لا”.
فجاء عثمان رضي الله عنه، وقال: “أشتري منك البئر، بكم؟” فوصلا في التدرج حتى أعطاه على ذلك البئر، تكملةً على المبلغ الأول، عشرة دنانير، فقبل، واشترى البئر.
تبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لتضحية سيدنا عثمان الكاملة بماله، فقال: “ما ضرّ عثمان ما فعل بعد الآن“.
وقد أعادها صلى الله عليه وآله وسلَّم لسيدنا عثمان لما جهّز جيش العُسْرة، فقال: “ما ضرّ عثمان ما فعل بعد الآن”.
رضي الله عن سيدنا عثمان، وعن سيدنا أبي بكر، وسيدنا عمر، ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
اللهم إنّا نسألك أن تجعلنا معظمين لصحابته رضي الله عنهم، محبّين لآل بيته صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأن تجعل فينا كمال الاتباع لحضرته صلى الله عليه وآله وسلَّم، والحمد لله ربّ العالمين.