برنامج على الأثر – الحلقة الخامسة عشر | التضحية – ج3
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين. يا رب صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آلِ سيدنا محمد، كما صلَّيتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلى آلِ سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
يا رب بالمصطفى بلغْ مقاصدَنا، واغفرْ لنا ما مضى، يا واسعَ الكرم.
خلقٌ أسّسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، بذلُ النفسِ والوقتِ والمالِ لأجل غايةٍ أسمى، ولأجل هدفٍ أرجى، مع احتساب الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى.
التّضحية
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ؟
جعل الله سبحانه وتعالى لعباده الذين أرادوا أن يدخلوا إلى الجنة، وأرادوا أن يدخلوا في دائرة رضاه، جعل لهم ثمرةً عظيمةً.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا • وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا
أعدَّ اللهُ الجنةَ رضوانًا، وأعدّ الجنةَ نتيجةً وخاتمةً لكل من شغل نفسَه خدمةً لأمةِ سيدِنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم.
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ
تذوق الصحابةُ الكرام حالًا من رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلّم، لما شعشع نورُ الإيمانِ في قلوبِهم، ولما تذوّقوا ذلك الحالَ العظيم، تهيأت نفوسُهم للتضحية بالغالي والنفيس لأجل ذلك المقصد الأعظم.
امرأةٌ… وما أدراك ما امرأة؟
تربّت في زمنِ النبوة، تخلّقت بالأخلاقِ النبوية، تذوّقت المعاني التي جعلتها تُضحّي بالغالي والنفيس.
أم شريك… من هي أم شريك؟
هذه إحدى نساءِ قريش، كانت تحت رجلٍ يُسمّى مُعسكر الدّوسي أو أبو مُعسكر الدّوسي.
كانت أم شريك في قريتها أو قبيلتها يعبدون صنمًا، وكانت لها بعض الأغنام تُربيها، فكانوا يأخذون أحسن الأغنام فيذبحونها ويجعلونها لذلك الصنم الذي يعبدونه.
فالعجيبٌ في الأمر أن أم شريك كانت صاحبة عقل، تنظر. نذبح الغنم ونضعه للصنم، فتأتي النسور والطيور لتأكل منه. هل ينتفع هذا الحجر بذلك؟
فبدأت يتَعارض في عقلها ما يفعله قومها، فأخبرتهم بذلك، وأول من بدأت به زوجُها، ولم ترَ ولم تعلم الإيمان، وإنما الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على عباده لما أكرمهم بالعقل.
أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ • وَإِلَى ٱلسَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
أمرنا بالنظر سبحانه وتعالى.
هذه أم شريك بدأت بذاتها وبدأت تتحرك. وما راعنا أنها سمعت بنبيٍّ كريم، عظيم، يدعو إلى التوحيد وإلى عبادة الواحد الأحد.
ذهبت زارت امرأةً من جيرانها، وكانت امرأةً مسلمة، فكانت سببًا لدخولها إلى الإسلام.
ما اكتفت هذه المرأة بذلك، ولكنها بقيت تطوف على بيوتات مكة. خرجت من قبيلتها إلى مكة، تزور النساء بيتًا بيتًا، لماذا؟ تدعو إلى الله، تعرّفهم، تريد من الناس أن يتذوقوا ما ذاقت: حلاوةَ الإيمان، حلاوةَ معرفةِ الله سبحانه وتعالى، حلاوةَ معرفةِ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
لكن المشركين في ذلك الزمن تعرّفوا عليها وأمسكوها، وقالوا لها: لولا قومُكِ لفعلنا بكِ ما فعلنا.
حملوها على بعيرٍ وردّوها إلى قومها.
خرج بها قومُها، أرادوا أن يُؤدّبوها، حملوها على بعيرٍ من غير شيء، كأنه عذاب وسط الشمس.
وفي يومٍ حارٍّ شديد الحرارة، تُنادي: أريد ماءً… لكنهم في كل مرة تقول أريد ماءً، يسقونها العسل، أرادوا بذلك عذابَها.
حطّت رحالُهم في مكان، أوثقوها رضي الله عنها، ولكن حلاوةَ الإيمان تغلب حلاوةَ الجسد.
حلاوةُ الروح والقلبِ تغلب حلاوةَ البدن، تذوّقت رضي الله عنها، وما أحسّت بذلك العذاب، لأنها علمت أن الذين يُجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، لابد لهم من ثمرةٍ عند الله سبحانه وتعالى، في الدنيا والآخرة.
أوثقوها وذهبوا إلى الظل، ولما كانت في الحر، قالت رضي الله عنها: بقيت أتحسّس الشمس، وأنظر هل يُعطيني المولى سبحانه وتعالى من ثمرته؟
قالت: فإذا بي بـإِناءٍ باردٍ وُضع على صدري، وهي موثقة، كيف تشرب ذلك الماء؟
قالت: فتحتُ عينيّ، فتذوّقت، فإذا به ماءٌ بارد، إِناء نزل من السماء.
شربت الأولى، شربت الثانية، شربت الثالثة، ثم صُبَّ عليها ذلك الماء حتى أبردها.
قام القوم فوجدوا الماء من حولها.
قالوا: أأخذتِ لنا الماء؟ قالت: لا، وإنما هو عطاءُ الله.
ذهب المشركون إلى عَتادهم وعُدّتهم، فوجدوا ما عندهم موجودًا على حاله.
نظروا إليها، قالوا: يا أم شريك، والله إن دينكِ هذا لأعظم من ديننا،
نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ ٱللَّهِ.
تضحيةُ امرأة، أثّرت في مجتمع من حولها.
وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ
هذا الجهاد، الذي جعله الله عز وجل لتغيير الكون، والذي سمّاه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلّم “الجهاد الأكبر”، الذي به تتأثر الناس، والذي به تدخل الناس في دائرة الإحسان.
نسألُ الله تعالى أن يُوفّقنا لما يحب ويرضى، وأن يَسترَنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، بجاه لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ ٱللَّهِ
والحمد لله رب العالمين.